الهوية والهويات الموريتانية

مقدمة عامة
تمثل الهوية مجمل السمات التي تميز شيئا عن غيره أو شخصا عن غيره أو مجموعة عن غيرها. كل منها يحمل عدة عناصر في هويته. عناصر الهوية هي شيء متحرك ديناميكي يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة وبعضها الآخر في مرحلة أخرى.
والهوية الشخصية تعرف شخصا بشكله واسمه وصفاته وجنسيته وعمره وتاريخ ميلاده. الهوية الجمعية (الوطنية أو المجموعة) تدل على ميزات مشتركة أساسية لمجموعة من البشر، تميزهم عن مجموعات أخرى. أفراد المجموعة يتشابهون بالميزات الأساسية التي كونتهم كمجموعة، وربما يختلفون في عناصر أخرى لكنها لا تؤثر على كونهم مجموعة. فما يجمع الشعب الهندي مثلا هو وجودهم في وطن واحد ولهم تاريخ طويل مشترك، وفي العصر الحديث لهم أيضا دولة واحدة ومواطنة واحدة، كل هذا يجعل منهم شعبا هنديا متمايزا رغم أنهم يختلفون فيما بينهم في الأديان واللغات وأمور أخرى.
والعناصر التي يمكنها بلورة هوية جمعية هي كثيرة، أهمها اشتراك الشعب أو المجموعة في: الأرض، اللغة، التاريخ، الحضارة، الثقافة، الطموح وغيرها.

و قد تطور العديد من الهويات المجموعة أو الوطنية بشكل طبيعي عبر التاريخ وعدد منها نشأ بسبب أحداث أو صراعات أو تغيرات تاريخية سرعت في تبلور المجموعة. قسم من الهويات تبلور على أساس النقيض لهوية أخرى. هناك تيارات عصرية تنادي بنظرة حداثية إلى الهوية وتدعو إلى إلغاء الهوية الوطنية أو الهوية المجموعة.
الهوية لغة و اصطلاحا
1.   الهوية في اللغة: يعنى مصطلح الهوية الذات و الأصل و الانتماء و الرجعية و هي مأخوذة من كلمة "هو" أي جوهر الشيء و حقيقته أي أن هوية الشيء تعنى أيضا ثوابته و مبادئه و يكفي طرح السؤال التالي لبيان ذالك، من أنا؟ من نحن؟ من هو؟.1
2.   الهوية اصطلاحا: تعرف الهوية على أنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب، أي تلك الصفة الثابتة و الذات التي لا تتبدل و لا تتأثر و لا تسمح لغيرها من الهويات أن تصبح مكانها أو تكون نقيضا لها , فالهوية تبقى قائمة ما دامت الذات قائمة و على قيد الحياة  و هذه الميزات هي التي تميز الأمم عن بعضها البعض و التي تعبر عن شخصيتها و حضارتها و وجودها.2
الهوية الموريتانية و إشكالية الانتماء
لقد خاضت موريتانيا ذلك البلد الواقع جغرافيا وثقافيا كهمزة وصل بين العالم العربي والقارة السمراء، أشواطا طويلة ومراحل عديدة لبناء استقلالها وبلورة وحدتها الوطنية والعمل لتعزيز انتمائها العربي والإفريقي على حد سواء. وقد ظلت ثنائية الهوية والانتماء أهم خصائص موريتانيا، وهو ما يعطيها ميزة نسبية ويفرض عليها في الوقت ذاته تحديات أكبر، وهي الدولة التي هيأها التاريخ والجغرافيا كما يدرك أهلها لتكون صلة ربط بين شمال إفريقيا وجنوبها، وبين العالم العربي والقارة الإفريقية، وفيها تتعايش الثقافتان العربية و الإفريقية دون أن تتعارضا. وعقب استقلال موريتانيا في الثامن والعشرين من نوفمبر 1960 برزت مشكلة ثنائية الهوية والانتماء، وثنائية الأصول العرقية والثقافية للشعب الموريتاني حقيقة لا يمكن لأي قائد موريتاني أن يغيبها أو يتجاهلها دون أن يعرض وجود البلد نفسه لأخطار جسيمة، كما تعد معرفة المسئولين الموريتانيين لها واعترافهم بها من الأمور الضرورية لبناء الوطن الموريتاني على أسس متينة، ومن هنا بدأ الحديث عما اصطلح على تسميته ب المشكل الثقافي في موريتانيا المستقلة كمرادف لتعميم تعليم اللغة العربية، والاعتراف بها كلغة رسمية للتعليم والإدارة. رغم أن العربية دخلت موريتانيا منذ القرن السابع الميلادي مع الإسلام، الذي ترسخ فيها في القرن الحادي عشر في ظل إمبراطورية أو دولة المرابطين، وتعزز خلالها مع توافد الهجرات العربية من المشرق العربي حيث تعربت القبائل البربرية تدريجيا، وفي الوقت نفسه دخلت اللغة العربية بوصفها لغة الدين الإسلامي إلى الجنوب الموريتاني الزنجي، وهكذا عرفت مختلف المناطق الموريتانية في القرنين الـ18 و19 نهضة ثقافية عربية وإسلامية جعلت منها منارة ثقافية، لم يقتصر إشعاعها على غرب إفريقيا، وإنما شمل كذلك المشرق والمغرب العربيين، فقد درس الأساتذة والعلماء الموريتانيون في الأزهر الشريف وفي مكة والمدينة والسودان وتركيا وغيرها، وعرف أولئك العلماء بالشناقطة نسبة لمدينة شنقيط، وهي التسمية التي أطلقها العرب المشارقة على موريتانيا قبل استقلالها تحت اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
وكان المستعمر الفرنسي قد اتخذ خلال استعماره لموريتانيا موقفا مزدوجا تجاه اللغة، ففي حين أبدى تسامحا بل وربما تشجيعا لتعليم العربية في الشمال وسمح بإنشاء مدارس مزدوجة، حارب اللغة العربية في الجنوب وأحل محلها تدريجيا اللغة الفرنسية، وقد عارضت وقتها معظم الأسر بالجنوب ذلك من منطلق أنها لا تريد إرسال أبنائها إلى مدارس الكفار، وقد لجأت الإدارة الفرنسية إلى استخدام القوة أحيانا لفرض تعليم لغتها بالجنوب.
وقد أنشأت المجموعتان العربية والزنجية إن جاز التعبير حضارات متعاقبة في موريتانيا منذ قدم التاريخ وظلتا تتعايشان، وصار الإسلام الديانة المشتركة التي تعزز الترابط بين جميع سكان موريتانيا. حتى أن القرآن وأمهات الفقه المالكي والشعر الجاهلي تمت ترجمتهم إلى اللغات الزنجية المحلية، وطباعتهم بأبجدية عربية، لازالت مستخدمة في الكثير من بلدان الساحل الإفريقي. وكانت موريتانيا أو شنقيط مركز إشعاع علمي وثقافي، حيث شهدت منذ القرن العاشر الهجري نهضة ثقافية شاملة إلا أن أهلها لم يهتموا بتدوين حركتهم العلمية وتوثيق أحداثها والتأريخ لها.
والناظر إلى موريتانيا يجد موقعا جغرافيا مناسبا لخلق شعب مزيج بين الأفارقة في جنوب القارة والعرب والبربر في الشمال. وفعلا شكلت موريتانيا عبر العصور نقطة وصل وجسرا تجاريا ربط ما بين الشمال والغرب الإفريقيين، تشكل في تجارة القوافل بين تمبكتُو وسجلماسة، ونشأ فيها تجمع سكاني ذو ثقافتين متعايشتين ويجمعهما الإسلام.
وفي بداية القرن الحادي والعشرين لا زالت موريتانيا مقسمة إلى مجموعتين سكانيتين هما العرب والزنوج، تعيشان معا في المدن الكبرى، ويسكن الأفارقة، تقليديا بمحاذاة النهر، لأنهم مزارعون بينما يوجد العرب في المناطق الأخرى لأنهم في الأصل بدو، حيث أن بقية البلاد صحراوية أو شبه صحراوية. وفيما يبدو الإسلام القاسم المشترك، والتعايش التاريخي يحتوي كثيرا من الفروق الكامنة بين مكوني هذا الشعب. وأنشأت المجموعتان العربية والزنجية إن جاز التعبير حضارات متعاقبة في موريتانيا منذ قدم التاريخ وظلتا تتعايشان وهناك بعض السمات المشتركة بين المجموعتين، لكنها لم تمح خصوصية كل مجموعة. ومن هذه المشتركات التراتبية الاجتماعية والحضور القوى للإسلام والتكامل الاقتصادي بينهما، وكذلك الروابط الإثنية والثقافية، حيث اختلطت الأعراق عبر التزاوج.
غير أن هذه السمات المشتركة لا ينبغي أن تحجب الاختلافات الحقيقية كذلك، فالمجتمع العربي مرتبط بالفضاء الاجتماعي والتاريخي للمغرب العربي، ومن ثم بالعالم العربي، فيما ترتبط المجموعة الزنجية بالفضاء الاجتماعي والتاريخي لغرب إفريقيا، ومن ثم بإفريقيا جنوب الصحراء، وعلاوة على هذه المعطيات الرئيسية تبدو موريتانيا كما يرى الباحث والكاتب الفرنسي فيليب مارشزين على درجة عالية من التعقيد، فهي دولة معقدة برأيه بالنظر إلى فسيفساء الاختلافات التي تميزها، بغض النظر عن الخطاب الرسمي الاندماجي، ففيها تلتقي الصحراء والساحل، ويلتقي العرب البربر والزنوج الأفارقة، وتتحدد العلاقات فيها برأيه بين المكونات المختلفة عبر التاريخ من خلال جدلية التكامل والتصادم، ولا يظهر التوتر فيها بين المجموعات العرقية فحسب، وإنما يضاف إلى ذلك الصراعات ذات الطابع التراتبي والطبقي التي تنجم عن التشكيلات الاجتماعية التاريخية، التي تحكمها حدود صارمة.
وما زال جدل الهوية والمواطنة قائما في موريتانيا رغم مضي أكثر من نصف قرن على تأسيسها. ويرى الكاتب الموريتاني محمد سعيد بن أحمدو إن الهوية في موريتانيا تحكمها مجموعة من المتغيرات وهذه المتغيرات بالنسبة للحالة الموريتانية لا تحسم خيار الهوية، فمن الناحية الجغرافية موريتانيا دولة طرفية في العالم العربي وهي دولة جوار بالنسبة لأفريقيا، أما من ناحية التركيبة الإثنية أو العرقية في موريتانيا فإن هذه التركيبة تتكون من أغلبية عربية وأقلية زنجية بالإضافة إلى أن العوامل الأخرى كالنخب الحاكمة الثقافية كلها لا تحسم خيار الهوية الموريتانية بقدر ما تؤكد وتثير نفس الإشكال. ويقول أنه مع ميلاد أو بروز كيان الدولة الموريتانية الحديثة الاستقلال سنة 1960 برزت أو ظهرت إشكالية الهوية السياسية في وقت مبكر، ففي ذلك الوقت سحبت مجموعات من الزنوج كانت ضمن حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني الموجود في ذلك الوقت وشكلت كتلة مستقلة تسمى كتلة غورغول تعبيراً عن مطالبها هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي فقد كانت هنالك عوامل أيضا ضاغطة منها سعي فرنسا الدولة المستعمرة سابقا إلى ضم موريتانيا إلى التكتلات الأفريقية التي كانت تتشكل في ذلك الوقت مثل منظمة الأقاليم الصحراوية المشتركة، ويرى أن هناك عدة عوامل تؤثر في هوية موريتانيا، منها الموقع الجغرافي والتركيبة الإثنية والبعد التاريخي والبعد الثقافي، وأن هذه هي المحددات أو الأبعاد تحسم الهوية الموريتانية، وأنه في فترة الستينيات كانت هنالك تحديات أمام هذه الهوية ولذلك انتقلت العلاقات الموريتانية العربية ومرت بمراحل منها مرحلة تأزم في البداية ثم مرحلة تقارب ثم مرحلة اندماج لأن موريتانيا بلد عربي ولكنها لم تنضم إلى الجامعة العربية إلا في سنة 1973 يعني تأخرت أكثر من 13 سنة ومن المفارقات هنا أن انضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية كان بطلب مغربي كما كان الاعتراض أيضا بسبب الموقف المغربي (إثر ضغط من الرئيس عبد الناصر حسب الرواية الرسمية الموريتاني(. واليوم يتطور الوعي وأصبح في موريتانيا من يرى أن اختلاف الأعراق والثقافات أشمل وأجمل مظاهر القوة والعطاء بما يوفر من تنوع وإثراء. وأنه لابد من تجاوز النزاعات ودوامة الكر والفر والتصالح والتنافر حينا والاختلاط والتمازج حينا آخر.
ويرى الباحث الموريتاني محمدو ولد محمد المختار أن صعوبات كبيرة اكتنفت البدايات الأولى لنشأة الدولة الوطنية في موريتانيا، وتشكيل هوية وطنية جامعة غير أنه يرى أن الحديث عن الهوية الوطنية في موريتانيا وفي غيرها فضلا عما يطرحه المفهوم من الإشكالات، يبقى حديثا نسبيا وإشكاليا، ذلك أن الهوية بطبيعتها ليست شيئا ناجزا يكون أو لا يكون، فالهويات هي من صنع أهلها، وهذا ربما يدفع للاعتقاد بوجود حد أدنى مفترض من الاتفاق حول هوية موريتانية على نحو ما، ويرى أن بناء دولة المواطنة أصبح ضرورة قصوى لبقاء الكيانات الوطنية، وحلا سلميا للتناقضات الثقافية في البلدان ذات التعدد الإثني كموريتانيا. ويرى أن الموريتانيين اليوم يسلمون بأنهم بلد متعدد الأعراق والإثنيات، تتعايش فيه أغلبية عربية واضحة على الأقل بالمعنى الثقافي (تتشارك هذه الأغلبية اللغة والقيم والزي والعادات والتاريخ) وأقليات زنجية بولارية وسوننكية وولفية لها مميزاتها الخاصة، وإن كانت تتقاسم مع مجموع الموريتانيين الدين والبلد والتاريخ والجغرافيا والمصير المشترك، فضلا عن الكثير من القواسم الحضارية الأخرى). وهذا يفترض في المضمون الثقافي ضرورة التعايش والتفاعل والتثاقف بين اللغة الرسمية للأغلبية واللغات الوطنية للأقليات الأخرى، كما يفترض دينيا ضرورة النصرة وتحقق الأخوة الدينية والوطنية، أما قانونيا فلا بد من التأكيد على حق الجميع في مواطنة كاملة وصادقة تحفظ الحقوق وتؤدي الواجبات بصرف النظر عن أي اعتبارات لونية أو عرقية أو لغوية أو فئوية أو جهوية أو سياسية طبعا أو غيرها (كما نصت على ذلك المادة الأولى من أول دستور موريتاني، بإلغائها لجميع أشكال الفوارق الثقافية والعرقية والاجتماعية، وإعلان المساواة بين جميع المواطنين).3 كانت موريتانيا، ولا تزال منذ الاستقلال تعتبر نفسها دولة عربية منفتحة على إفريقيا، مما يجعلها العمق الإستراتيجي للعالم العربي الذي يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى حضور إفريقي في المحافل الدولية لصالح القضايا العربية.

أبعاد المختلفة للهوية

لا يمكن تحديد ماهية الهوية وأصيلها نظريا ما لم نحدد أبعادها الأساسية التي تقوم عليها وعليه فإن الإلمام بهذه الأبعاد مقوم أساسي لبناء تصور سليم عن الهوية.
ونفرض هنا أن التكوين المركب للهوية ينضوي على أكثر من عنصر منطلقين في ذلك من بديهية يجدر بنا أن نعمقها قليلا، فهناك أولا قضية تميز الهوية عما لا ينتمي إليها، أي تحديد التخوم، وهذا يطرح البعد الوطني أو القومي وهناك ثانيا قضية تحديد السمات المميزة لهذه الهوية بعد تحديد تخومها وخطوطها الفاصلة عن غيرها، وهذا يطرح البعدين الثقافي والحضاري، ويطرح أيضا البعد الدين. وهناك ثالثا الجانب الهيكلي في الكيان الذي نبحث في هويته، وهذا لا يطرح البعد الاجتماعي فحسب، بل البعد الطبقي أيضا.
1.   البعد الإقليمي (الهوية المحلية): يؤدي الإقليم دورا مهما في استكمال مقومات الهوية، لأنه لا يمكن لأية جماعة وطنية مهما صغرت أو كبيرة، أن تعيش إلا بإقليم ومن دون رقعة جغرافية معينة، مع الأخذ نظر الاعتبار أنه كلما كان الإقليم موحدا وأكثر تماسكا، ساعد ذلك على إقامة علاقات أوثق بين أضاء الجماعة الوطنية الواحدة، وذلك لأن وحدة الإقليم تعتبر عنصرا جوهريا في تحديد كثافة التفاعل والتلاحم.
فإذا حكمنا على تكوين الجماعة من منظور كثافة العلاقات (أي عدد العلاقات العوامل التي تميز مجموعة من أخرى وتمثل قاعدة المشاركة والهوية داخل الجماعة)، فذلك اعتبارا لأهمية التفاعل بين المركز والمحيط في بناء الدولة وإرساء دعائمها.
وتعد الوحدة الإقليمية للدولة عاملا لا غنى عنه في تحديد أبعاد وهوية الجماعة الوطنية إزاء الغير من الجماعات الوطنية الأخرى.4
2.   البعد الثقافي:
يشغل البعد الثقافي مكانة بارزة في تحديد هوية المجتمعات، وتأتي هذه المكانة من داخل هذا البعد في جوانب كثيرة مع أبعاد الهوية الأخرى، ومع صعوبة تحديد إطار مفهومي للثقافة لسعة مدلول الكلمة وشمولها، فإنه يمكن التأكد على ما يتضمنه هذا المدلول من قيم ومعتقدات ومعايير مشتركة مكتسبة وأعراف وأخلاق وطبائع وأفعال وتعبيرات فنية وملبس ومأكل ومشرب.
ويعد النسق الثقافي بناءا إدراكيا لتفسير وتأويل العالم المحيط، كما ترتبط الهوية الثقافية بقيم الجماعة ونظامها القيمي أو نسقها الثقافي في مواجهة الآخر، والهوية الثقافية هي الذاكرة الجماعية التي تبدأ نواتها الأولى بالأسرة.
وتعمل الهوية الثقافية على إحياء الظاهرة الخاصة بالتكامل وتحديد الأدوار الخاصة بكل فرد في المجتمع، وهي تلفت الانتباه إلى الشخصية الجماعية أو المجتمعية للأفراد في المجتمع، كما توضح العلاقة بين الإنسان ومحيطه الثقافي، وهي الصورة التي يكتسبها الفرد عن نفسه ردا على سؤال: من أكون؟
‌أ.    البعد الديني:
يمكن النظر إلى الدين باعتبار أنه يشكل هوية مستقلة، فلقد عرف التاريخ الإنساني دولا قامت على أسس دينية، كالدولة الإسلامية (الخلفاء الراشدين)، والدولة الأموية، والعباسية، والعثمانية التي قامت على أساس المنهج الإسلامي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإمبراطورية البيزنطية التي قامت على المسيحية.
وهكذا قامت العديد من الإمبراطوريات القديمة على أساس فهم ديني للعلاقة بين الحاكمين والمحكومين، فكانت الهوية هي هوية التبعية الدينية التي حرمت الجماعات التي تدين بديانة أخرى من شرعية الانتماء، ومن هنا حدث الارتباط الإقليمي بالهوية.
‌ب.     البعد اللغوي:
اللغة ليست أداة للتواصل والتخاطب بين الأفراد فحسب، بل هي أيضا وعاء للثقافة ونمط للتفكير ومخزن للتراث، والمتكلمون بها كلغة أصلية يشتركون معا في هذه الموروثات، كما هي أداة للتنشئة الاجتماعية تقوم بها الأم خصوصا، والأسرة عموما، في السنوات الأولى من العمر، وترسي الدعائم الأساسية للشخصية، فاللغة كنظام رمزي هي مرآة للهيكل الاجتماعي، ولنسق القيم والمعايير، ولقواعد السلوك السائدة في الجماعة.
وهذا التداخل بين اللغة والثقافة يجعلهما مترادفين في أدبيات العلوم الاجتماعية حول موضوع الجماعات الإثنية، فاصطلاحا (( الجماعة الإثنية اللغوية ))، و (( الجماعة الإثنية الثقافية )) يستخدمان بالتناوب عند معظم الكتاب، ولا ينضوي التباين اللغوي أو الثقافي في ذاته على أيديولوجية صراعية، ولكنه يتحول إلى مثل هذه الإيديولوجية حينما يستخدم التباين لأهداف سياسية سواء لقهر جماعات أخرى أو لمقاومة هذا القهر.5
3.   البعد الإثني:
تناول العديد من الأبحاث والدراسات هذا البعد ودوره في الهوية، وقد اعتبر عقد السبعينات من القرن الماضي عقد الهوية العرقية والإثنية، وتجدر الإشارة إلى أن عددا كبيرا من الباحثين كان قد استخدم الإثنية مفهوما مرادفا أو مطابقا لمفهوم "العرقية".
وتدرس الهوية العرقية من مدخل الأقليات، وتعرف الأقلية بأنها ((أحد المتغيرات التي لها تأثيرها على التغير الاجتماعي من خلال التفاعل بينها وبين الدول والمجتمع))، وتتحول الأقليات هنا إلى قضية دعم وبلورة للمجتمع المدني من خلال توسيع قنوات المشاركة والتمثيل وتسييس التعددية للتقليل من نشاط المجتمعات الأولية والأقليات التي تزيد من العنف والتوتر والصراعات بدلا من تحقيق التكامل الوطني.
ويمكن التفريق بين الهوية العرقية أو الإثنية وبين الهوية القبلية على الرغم من اشتراكهما في تأسيس الهوية على العرق والدم. إلا أن الهوية القبلية تشكل دائرة أضيق ضمن وحدة اجتماعية من دون بقية القبائل على الرغم من وجود الأصل المشترك.6
المجموعة العربية
تمثل مجموعة البيظان المجموعة  العربية الموريتانية و البيظان اسم يطلق محلياً على الذين يتكلمون الحسانية من العرب والبربر البيض ومن لحق بهم من السود،في موريتانيا، الصحراء الغربية،غرب مالي،جنوب الجزائر وشمال السنغال، إلى المحيط الأطلسي غربا وهي المنطقة المعروفة محليا بتراب البيظان، وتشترك هذه المجموعة أن لها نفس العادات و التقاليد ونفس نمط اللباس ومن مميزاتهم كذلك شكلا لراحلة و اللثام الأسود وهم مسلمون مالكيون على مذهب أبن القاسم وتتركز مجموعة البيظان الكبرى في موريتانيا واليها يعود أصل هذه التسمية.
ويخضع مجتمع البيظان لتقسيم طبقي هرمي صارم يعكس واقع الحياة التقليدي لدى البيظان وتوزيع الأدوار لدى مختلف شرائحهم, فبالإضافة إلى الزوايا (أو الطلبة)ولعرب (أو حسان) الذين يشكلون أكبر مجموعتين لدى البيظان يوجد كذلك ما يعرف محليا ب أزناگ، إگأون، لمعلمين، الحراطين, كل حسب الوظيفة التي يزاولها في المجتمع القبلي.
دوائر الانتماء:
ينقسم المجتمع الموريتاني إلى عدة فئات اجتماعية لكل منها وظيفتها الخاصة:
v   حسان (لعرب) و هي الفئة العليا في السلم الاجتماعي و أعضاءها هم أهل الشوكة حياتهم تقوم على الغزو و الحرب و يعيشون من الغزو و الغنائم التي يفرضونها على الإتباع و الأغنام التي يأخذونها من قبائل الزوايا التي تقوم بتجارة القوافل و ينحدرون من أصول مختلفة اغلبها من أصل قبائل بني حسان العربية التي جاءت مع الهجرة الهيلالية التي دخلت موريتانيا منذ القرن الثامن الهجري و الربع عشر ميلادي و البعض الآخر من أصول قبائل صنهاجة التي ظلت مستقلة ذات نزعة حربية.
v   الزواية (الطلبة) و هي الفئة الثانية في السلم الاجتماعي و هي قبائل مسالمة في الغالب ذات نزعة علمية و دينية تتولى وظائف الإمامة و القضاء و الإفتاء و التدريس ,و تقوم كذالك بنشاطات التجارة و تنمية الأنعام و حفر الآبار و اغلب هذه القبائل ينحدر من أصول قبائل تنحدر من قبائل المرابطين أما البعض الآخر فينحدر من عرب الأمصار الذين وفدوا إلى الصحراء في عهود مختلفة.
v   اللحمة (آزناكة) و هي الفئة الثالثة و أصل الكلمة "اللحمة" من أصل الالتحام في النص الخلدوني يعنى الدمج و الالتحام و هي الفئة من المجموعات المغلوبة و جلها من صنهاجة و بعضها من عرب حسان الذين أخضعهم بنو عمومتهم المعارك و عملها محصور في تنمية المواشي المملوكة للزوايا و حسان.
v   الصناع(لمعلمين) و هي فئة تمتهن الحدادة و لا ترجع إلى أصل واحد فمنها العربي و الصنهاجي و السوداني و غير ذالك و هذه الفئة أكثر ارتباطا بالزوايا نظرا لدورهم التجاري و الاقتصادي.
v   إكأون (المغنون) حرفتهم الموسيقى و الغناء و أصول بعضهم أندلسية و اغلبهم من الطوارق و الودان و يرتبطون عضويا بفئة أهل الشوكة (حسان).
v   لحراطين: فئة تميل ألوانها إلى السمرة الداكنة أو السواد و هي من مجتمع البيظان العربي و كثير منها كان من الموالي أو العتقاء،أصل هذا الاصطلاح من أصل (أحرضان ) الخلاسي مهجن من أب بربري و أم زنجية و أسلافهم الحقيقيون هم سكان الواحات القديمة من البربر المختلطين بالزنوج ,و هم شعب "أكرأمان" أي "اكرأمانت أو جرمانت" الذين كانوا في ليبيا الرومانية و انتشروا في الصحراء نتيجة الضغط الروماني و سعيا إلى موارد الذهب و الباقي من لحراطين الجدد هم مجموعات زنجية و تعربت و صارت من مجتمع البيظان كغيرها من العرب البربريين المتعربين.
v   العبيد: هم مجموعة من الرقيق السود التي انتقلت إلى الصحراء عبر تجارة القوافل و تزايدت في عهد حروب الحاج عمر الفوتي ضد ممالك "بأميرا" الوثنية و غيرها من المجموعات السودانية بالقرن التاسع عشر.7
المجموعة الزنجية
تمثل مجموعات البولار والسوننوكي والوولوف أهم المجموعات الزنجية أو الإفريقية الموجودة ضمن مكونات المجتمع الموريتاني أو تمثل هذه المجموعات الزنجية المجموعة الثانية إلى جانب المجموعة الأخرى "العربية"، وتجدر الإشارة إلى وجود اختلاف واضح بين الثقافة العربية الموريتانية من جهة والثقافة الموريتانية الزنجية من جهة أخرى مع الاتحاد في الدين والأرض والمصير.
وإذا كانت المجموعة العربية تتكون من عدة فئات أو شرائح متعددة  و متمايزة فإن تلك التعددية و التمايز نفسه يسود أيضا المجتمع الزنجي مع الإشارة إلى ما تتسم به هذه المجموعات الزنجية من انتشار و إن بدرجات متفاوتة- في إفريقيا.
دوائر الانتماء:
أمافي مجتمع الزنوج فتأخذ الفئة الاجتماعية إشكالا مقاربة لما هي عليه في المجتمع البيظاني لكنها أكثر تعقيدا تبعا لتباين المجتمع الزنجي إلى ثلاث سلالات كبرى ( البولار السوننكى  و الولف) متمايزين في التقاليد الاجتماعية و الهوية الثقافية و اللسان .وضمن كل سلالة اجتماعية يتدرج الترتيب الطبقي وفقا للمهنة في الغالب حثي تتحول الممارسات الوظيفية إلى اطر اجتماعية صارمة .
ففي البولار مثلا ينقسم المجتمع إلى :
v   مجموعة الأسياد و تتشكل من فئتين هما:التورودبو هي فئة يغلب عليها التعليم و المحافظة على التقاليد الإسلامية و تتكون من رجال الدين الذين يختصون في التعليم و الدعوة ضمن مقتضيات الزعامة الروحية .
v   سبه: و مفردها "تطو" و هم المحاربون الذين مهمتهم الدفاع و قد عرفوا بالشراسة و اضطهادهم لباقي الفئات.
v   مجموعة غارمة و تتوزع إلى فئات:سبب لبب و مفردها "تبلو " و هم صيادو الأسماك و لها علاقة وطيدة بتورودب و تشبه إلى حد كبير فئة اللحمة عند البيظان.
v   لوبه: و هم النحاتون و تعيش هذه الفئة  ملازمة للفئات الارفع للسلم الاجتماعي
v   سكيبه: و مفردهم "سكو"و هم الاسكافيون و المشتغلون عموما بالصناعة  الجلدية .
v   مابوبه: و مفردهم "مابو"و هم النساجون و صانعوا الأدوات الفخارية ويتولى رجال هذه الفئة النسيج فيما تتولى نسائهم صناعة الأدوات البخارية .
v   ويلوبه: و مفردهم"بايلو"و هم الحدادون صانعوا آت الحرب و الأدوات الحديدية.
v   أولوبو: و مفردهم "كأولو" وهم النسابون و الشعراء و أصحاب الفن و يمتازون بأنهم أكثر ثراء
v   ماتوبه: و مفردهم"ماتو"و هم العبيد و تأتى هذه الفئة في أسفل السلم الاجتماعي
و في المجتمع السوننكي: ينقسم المجتمع إلى ثلاث مجموعات كبرى هي:
v   هوري اللمو: و هي الفئة العليا في المجتمع و تضم فئتي رجال الشريعة (موديني)  يبدو أن تسميتهم مشتقة من مكلمة "الدين"  يحمل المنحدرون من هذه الفئة ألقاب (ماريكا ـ سيسي– جاكنا- انجاي- سوخنا– تانجا– كوريرا– درامي-حيداره) فيما تحمل الفئة الثانية و هي فئة المحاربين و الزعماء السياسيين اسم "تنكا اللمو" و يحملون ألقاب (سوماري – جأورا– باتيلي– جابيرا- كمرا- كنديغا).
و تتوزع الطبقتان الأوليان شؤون السيادة و الملك و عالم الدين و الإمامة و السلطات الروحية فيما تتوزع الطبقتان الأخرى عالم الأتعاب و الكدح بمختلف أصنافه و اتجاهاته حيث تتخذ فئة "انياخملني" من عالم الحرف و الصناعات فضاء خاصا لها لا يمكنها تجاوزه في أي حال من الأحوال أما مجموعة "سومونو" فهم رجال البحر العارفون بأسراره و لا يجوز لهم مغادرة هذا العالم إلى فضاء اجتماعي أو مهني آخر 
و جدير بالذكر أن الطبقية في هذا المجتمع الإفريقي العتيد راسخة الجذور حيث تعيش كل فئة اجتماعية حياة مغلقة و تحرم التقاليد أن يتزوج أي فرد من المجموعة خارج طبقته حيث لا ينزل الأسياد مطلقا إلى عالم السفلية و لا يمكن للتابعين أن يفكروا في الزواج من بنات "الهور اللمو" و من يفعل ذلك فانه يعاقب بالجلد و السجن مكبلا بالسلاسل أما إذا كانت المرأة التي تزوجها بكرا فان العقوبة تكون أكبر من ذلك و اشد و في أسفل الهرم الاجتماعي يقبع العبيد و يحملون لقب "كومو" و يعانون من اضطهاد بشع
أما في مجتمع الولوف فينقسم هو الآخر إلى :
v   الأحرار (اجيير): و ينقسمون إلى عدة فئات من بينها: "جارمي" و هم الزعماء السياسيون الذين يتولون الأمارة و السلطة ثم "الكرميين" ثم "الكانكام" ويتولون المناصب الوسطى في السلطة السياسية لمجتمع الولوف ثم فئة "اديومي- بور" المنحدرون من زواج أمير بأمة ثم "بادولو" الذين يمارسون الفلاحة و ينتشرون في مناطق – والو- على ضفتي النهر
v   الحرفيون(أنيونو) و تشمل هذه الفئة المحتقرة من المجموعات السابقة كل أصحاب المهن الحرة و المطربين و الصيادين
الأرقاء(أتيام) و يتوزعون على عدة طبقات متنوعة حسب طبقات ملاكهم و بالتالي يتواصل هرم الانحدار تبعا لفئة السيد.8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2. الأمازيغية والأمن الهوياتي في شمال إفريقيا، رسالة ماجستير، رفيق حصير، جامعة لخصر ـ باتنه 2012 / 2013، ص43
3. موريتانيا ثنائية الهوية والانتماء، مقال على الرابط http://aqlame.com/article17360.html
4. أثر العولمة على الهوية الثقافية للأفراد والشعوب، زقو محمد، ك. ع القانونية والإدارية، جامعة حسيبة بوعلي 2010
5. أثر العولمة على الهوية الثقافية للأفراد والشعوب، نفس المصدر
6. أثر العولمة على الهوية الثقافية للأفراد والشعوب، نفس المصدر
7. الرق في موريتانيا وأبعاده الشرعية والسياسية، محمد سالم ولد ومحمد، المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2012
8. الرق في موريتانيا، مرجع سابق

لماذا الديمقراطية؟

ما دام الديمقراطية مجرد نظام سياسي يهدف إلى تحسين شتى ميادين الحياة الإنسانية، اعتمده غيرنا نتيجة فشل أنظمته السابقة، ومادمنا نمتلك أعظم نظام سياسي واجتماعي يحوى كل الميادين التي تسعى الديمقراطية إلى تحسينها وأكثر، فلماذا لا نكتفي بتفعيل نظامنا هذا "الشريعة الإسلامية".

كلمة ترحيبية

تشرفنا زيارتك، لذلك نود منك معاودتها دائما للإطلاع على جديد الموقع

Welcome speech

We are honored to your visit, so we would like you always return to see the new site