التبعية السياسية والاقتصادية كمعوق للتنمية في الدول لاحقة النمو المصدرة للنفط



مقـــــــــــــــدمة
من المسلم به بداهة أنه لا توجد دول متقدمة بالطبع ولا دول متخلفة بالطبع، بل إن إشكال التقدم والتخلف قد يطرح سؤالا من قبيل: متقدم بالنسبة لمن؟ أو متخلف مقارنة بمن؟ وأي محاولة للإجابة على هذين السؤالين قد تبدو إجابة ذات طابع إيديولوجي أو إقصائي.
ومع ذلك فإنه وبالرجوع للأوضاع المختلفة التي تعيشها بلدان العالم، وانطلاقا من مبدإ المقارنة قد نقسم دول العالم إلى  نوعين أو ثلاث، وفقا لمعايير متعددة جرى الاتفاق عليها بين الباحثين، قد نخلص في نهايتها إلى الحكم على دولة بأنها متقدمة أو متخلفة أو لاحقة النمو، هذه الأخيرة التي تتفرع بدورها إلى نوعين: (مصدرة للنفط، وأخرى غير مصدرة للنفط)
وبما أننا بصدد الحديث عن الدول لاحقة النمو المصدرة للنفط التي تدخل في صياغة سياستها حسابات متعددة من ضمنها عوامل على مستوى الاقتصاد السياسي العالمي، ومتطلبات بناء الدولة والتنمية، نرى أنه من الواجب علينا ـ ولكي نتمكن من الإحاطة بجوانب الموضوع ـ صياغته كالتالي:
إلى أي حد يمكن اعتبار التبعية السياسية والاقتصادية معوق يحول تنمية دولة النامية المصدرة للنفط؟
هذا السؤال وما يتفرع عنه من أسئلة هو ما سنتناوله بشيء من التحليل وذلك في عدة نقاط هي على النحو الآتي:
الدول لاحقة النمو المصدرة للنفط
تعود الجذور الأولى لمأساة الدول لاحقة النمو المصدرة للنفط إلى خطة مارشال الأمريكية التي وضعت أساسا لمساعدة الدول الأوروبية الخارجة توا من ويلات الحرب؛ إلا أنها سرعان ما ساهمت في تخلف بالبلدان الموسومة بدول العالم الثالث بشكل أو بآخر وإن بدرجات متفاوتة، خاصة بعد تطور الاقتصاد الأوروبي، الأمر الذي كاد يحدث تضخما في البنوك الأمريكية التي كانت تفيض بالأورودولار سنة 60، فلم تجد حلا لذلك سوى إقراضها لدول أمريكا اللاتينية ودول إفريقيا المستقلة حديثا، ولم تقف محنة هذه البلدان عند هذا الحد، بل تنامت مع اكتشاف البترول، حيث سارعت بإشارة من دول المركز إلى اقتراض أموال من دول الشمال تساعدها في الحفر عن مخزوناتها البترولية، أضف إلى ذلك ديون البنك الدولي. من هنا تتجلى الديون الخارجية التي أثقلت كاهل دول العالم الثالث أو التوابع في ثلاثة أقطاب رئيسية: (بنوك خاصة، دول الشمال، والبنك الدولي)، هذا الأخير الذي دأب على تطبيق سياسة استعمارية جديدة، فنظرا إلى أنه لم تعد ثمة جهة مستعدة لمنح قروض للبلدان التي أصبحت عاجزة عن سداد دينها المتراكم عبر العصور، بات صندوق النقد الدولي هو ملجؤها الوحيد. هذا الأخير الذي يقبل إقراض المال لكن بأسعار مرتفعة، وبشرط قبول البلد الذي يحتاج إلى الاقتراض تطبيق سياسة قررها خبراء صندوق الدولي ذوي النزعة فوق الليبرالية، تلك السياسة القائمة على التدخل الصارخ في شؤون الدول المستدينة، والتي تكرس التبعية بأبهى صورها لدول المركز، الأمر الذي قد يشكل عائقا أمام تنمية تلك البلدان في كثير من الأحيان، نظرا إلى أنها لم تعود مستقلة في قراراتها وبرامجها التنموية ولا تحديد أولوياتها. (مأساة ديون العالم الثالث، 1/2)
وهذا ما يجرنا إلى الحديث عن التبعية السياسية والاقتصادية التي تعاني هذه البلدان من آثارها في حتى المجالات الحياتية.
التبعية السياسية والاقتصادية
معلوم أن الاستعمار العسكري الأجنبي قد خرج من مستعمراته منذ وقت ليس بالقليل، بيد أنه قد ترك خلفه ما يمكن وصفه باستعمار بشع، يتجلى في شكل نخب فاسدة تمتلك زمام الحكم في البلدان النامية أثقلت كاهل شعوبها بالقروض الكثيفة التي حصلوا عليها باسم بلدانهم التي لم يستفد سكانها إلا قليلا جدا. فقسمها الأعظم حازته أنظمة ديكتاتورية، مرتبطة استراتيجيا بالقوى العظمى بالشمال لنفسها. وقسم كبير من المبالغ المقترضة ضاع نتيجة سوء التسيير، وهذا ما يعني أن تلك الأنظمة المتعاقبة على حكم الدول لاحقة النمو قبلت وبكل بساطة إغراق بلدانها في ديون خارجية، بقدر ما اقتطعت لنفسها من العمولات.
ولا تعني التبعية شيئا آخر سوى تلك الشروط المفروضة من قبل دول أجنبية فيما يخص الاستثمار الأجنبي المباشر في بلدان العالم الثالث، وكذلك الاتفاقيات التجارية غير المتساوية، وتسديد فوائد صادرا الموارد الطبيعية على الديون المتراكمة، بالإضافة إلى أن تبادل المواد الأولية بسلع مصنعة غالية الثمن الأمر الذي ينتج وجود علاقات بنيوية غير متوازنة بين دول المركز ودول الأطراف، وهو ما يعني بعبارة أخرى "الشفط الخارجي" وفق عبارة غندر فرانك. (مركز الخليج للأبحاث، التبعية، 117)
من هنا يمكن إرجاع تخلف بلدان العالم الثالث إلى كونها تابعة للنظام الرأسمالي العالمي، ويتجلى ذلك التخلف في نمطين اثنين: أولهما يتمثل في التطور المتفاوت في القطاعات ببلدان العالم الثالث حيث تحصل بعض القطاعات على حصة الأسد من الاستثمار الأجنبي المباشر، بينما تبقى أخرى محرومة أو معدودة الاستثمار. أما النمط الثاني فيتجلى في إدخال نظام طبقي غربي إلى دول العالم الثالث.
مشاكل التنمية في الدول لاحقة النمو المصدرة للنفط
من نافلة القول التأكيد على أهمية الموارد الطبيعية في الدفع بعجلة التنمية في أي بلد، ومع ذلك فليس كل بلد يتوفر على موارد طبيعية متقدم بالضرورة، وليس كل بلد يفتقر إلى وجود موارد طبيعية متخلف بالضرورة، لكن أن يحدث العكس فهذا ما يبعث استغرابا ويدعو إلى التساؤل. وهذا ما أكدته إحدى الدراسات التي أجريت حول هذه المسألة. فكانت الخلاصة وجود ترابط عكسي بين النمو الاقتصادي ومدى وفرة الموارد الطبيعية وعلى رأسها المعادن والنفط. وهذا الارتباط تمت ملاحظته بشكل متكرر عبر الزمن وفي بلدان تختلف من حيث حجم السكان وتركيبهم، ومستويات دخل الأفراد ونوع الحكومات، حيث وجد بصفة خاصة أن البلدان التي تعد فقيرة في الموارد الطبيعية قد سجلت معدلات نمو اقتصادي أعلى بكثير من تلك الغنية بهذه الموارد.
جدير بالذكر أن هذه الظاهرة تم رصدها أول الأمر في هولندا، وهو ما جعل الاقتصاديين يطلقون عليها "المرض الهولندي" وهي تعني أن أي بلد يصدر المورد الطبيعي (النفط) تتدفق عليه عائدات كبيرة بالنقد الأجنبي الأمر الذي يؤدي إلي رفع قيمة العملة المحلية بسرعة شديدة مقارنة بالعملات الدولية الأخرى، وهو ما يترتب عليه بدوره إضعاف قدرة القطاعات الإنتاجية علي المنافسة سواء في الأسواق الخارجية أو السوق المحلية، حيث يحد ارتفاع سعر صرف العملة المحلية من القدرات التنافسية لمنتجات هذا البلد في السوق الدولية، إضافة إلي أن أسعار الواردات تصبح في الكثير من الحالات أرخص من أسعار المنتج المحلي. (مجدي صبحي، لعنة الموارد الطبيعية، 1) وتجدر الإشارة إلى أن هذه الظاهرة "المرض الهولندي" ليست حتمية بالضرورة، بدليل أن هولندا ذاتها لم تعد تعاني من مرضها ذاك، علاوة على ذلك فقد وجدت عدة نماذج أخرى نجحت في تطوير قطاعاتها الإنتاجية. مع الإشارة إلي أن عملية التنمية عملية معقدة وصعبة وهو ما ينطبق ليس فقط علي البلدان المصدرة للنفط، بل على عدد كبير جدا من البلدان النامية.
هذا بالإضافة إلى تكريس التبعية الذي تعمل عليه أيادي داخلية تتمثل في النحب الفاسدة التي تحكم تلك البلدان، إلى جانب أيادي خارجية تتمثل في خبراء صندوق النقد الدولي، أضف إلى ذلك أزمة الديون التي تشتت عائدات الموارد الطبيعية وتعيق عجلة التنمية لدى دول العالم الثالث بشكل عام، والمصدرة للنفط بشكل خاص.
وصفة القول أن الدول لاحقة النمو لا تواجه المشكلة التي يطرحها الاقتصاد الريعي، أي اعتماد الدولة على مصدر واحد للريع (الدخل)، في مقابل إهمال الموارد الأخرى، بل إنها تواجه مشاكل عديدة تحد من تنميتها وجعلها من الصعوبة بمكان. لا نريد  بهذا القول تأكيد ولا نفي نظرية المؤامرة، بقدر ما نحاول استقراء واقع الدول التي تعاني التخلف ـ بمنطق المقارنة مع ـ وتنشد التنمية، هذه الأخيرة التي تحول دونها مشاكل جمة الناجمة عن مخلفات الاستعمار فتنامي الديون الخارجية وتراكمها ثم التبعية التي كرستها نخب سياسية متعاقبة على حكم بالبلدان لاحقة النمو، هكذا كله جعل هذه الدول وخاصة تلك المصدر للنفط دول أطراف تتبع خطى دول المركز وتابعة لها.


التعليقاتإخفاء