نظريات البحث الاجتماعي/ المصطفى اسقير مسعود



مدخل
توجد في ميدان البحث الاجتماعي مقاربتان متمايزتان، واحدة نوعية / كيفية "Qualitatif" والأخرى كمية "Quantitatif"، وهاتان المقاربتان تمكنان الباحث من مقاربة أبعاد الظاهرة موضع البحث، إما من حيث إضافاته النوعية، أو من حيث كمية تلك الإضافات. ومع أن كلمة "Approche" تترجم في اللغة العربية إلى "مقاربة" نجد أن الكثير من الترجمات العربية خاصة في الشرق تستخدم كلمة "مدخل، أو أسلوب" للدلالة على نفس المعنى، كما أن هناك ترجمات أخرى تترجم كلمة Approche إلى "منهج أو منهاج"، غير أن الذي نجده مناسبا من بين تلك الترجمات هو مفهوم "مقاربة"، ونعني به الإطار العام الذي يمكن الباحث من دراسة موضوع أو ظاهرة ما في نطاقه، باستخدام منهج أو عدة مناهج تتناسب وطبيعة موضوع الدراسة، ونفس الأمر ينطبق على أدوات جمع البيانات.
1)     المقاربة الكيفية L'approches quantitative
إن المقاربة الكيفية عبارة عن مجال فسيح يقوم على تداخل فروع العلم، وهي مجال غني بالمنظورات الفكرية، كما أنها تستمد قوتها من استعمالها لعدد كبير من الطرق والأساليب المتاحة لإنتاج المعرية. وتوفر المقاربة الكيفية للمشتغلين بالبحث في نطاقها مجموعة من الإمكانات الإبستمولوجية والفكرية والمنهجية. ونظرا لما تتسم به عملية البحث من طبيعة كلية، فإن البحث الكيفي يكون بحثا فريدا سواء من حيث المحتوى، أو بؤرة الاهتمام، أو الشكل. وحين نقول إن براعة البحث الكيفي تتضمن اتجاها فكريا كليا فإننا نعني أن ممارسة البحث الكيفي ممارسة انعكاسية وخاضعة للتطوير والتعديل أثناء العمل، وأنها تنتهي إلى إنتاج معرفة تحكمها الاعتبارات الثقافية وتشتبك بالأفكار النظرية من خلال تفاعل مستمر بين النظرية وطرق البحث من ناحية، وبين الباحث والمبحوثين من ناحية أخرى.
فالبحث الكيفي ليس مجرد مفهوم عام مجرد، أو مجموعة من الأساليب التي يسهل استعمالها، وإنما هو مهارة عقلية، إبداعية دقيقة جدا، لا يكتفي من ينتهجها بتعلمها فقط بل إنه يسهم في تطويرها كذلك. ولكي نفهم ما يقوم به المشتغلون بالبحث الكيفي لابد أن نكون قادرين على إدراك المقاربة الكيفية باعتبارها حقلا معرفيا يتسم بطبيعة خاصة ومتميزة، وليتحقق ذلك لابد من عقد مقارنة بينها وبين نظريتها الكمية وكشف وجوه التغاير بينهما. إذ أن لكل منهما أسسها الخاصة التي تنهض عليها وتستمد منها وجودها، ولكل منهما طريقتها المختلفة في طرح الأسئلة وأسلوبها المتميز في التفكير.[1]
يقوم الباحثون الكيفيون ببناء وتحليل الموضوعات الأساسية المتضمنة في ثنايا النصوص المدونة التي أسهموا في توفيرها، ويحدث هذا لأن الباحثون الكيفيون يضعون نصب أعينهم التوصل إلى معرفة المعنى، ذلك أن بلورة مقولات وفئات الموضوعات الأساسية هي الطريقة التي يحاول بها الباحثون الكيفيون استخلاص المعنى من البيانات التي تحصلوا عليها.
وتحوي المقاربة الكيفية أنماطا عدة من البحوث تختلف عن بعضها البعض في أسسها الفلسفية والتحليلية، إلا أنه يظل يجمعها قاسم مشترك بينها يضعها في تصنيف واحد مقارنة بالمقاربة الكمية.
وتختلف المقاربة الكيفية عن المقاربة الكمية في دراسة الظواهر الاجتماعية والسلوكية في أنها ترفض اعتبار أن أغراض وطرق العلوم الاجتماعية هي نفسها أغراض وطرق العلوم الطبيعية والفيزيائية، على الأقل من حيث المبدأ. فالأساس في البحوث الكمية سواء في العلوم الاجتماعية أو العلوم الطبيعية أنها تسعى نحو تحقيق واختبار النظريات وتفسير الظواهر عن طريق تأكيد أنها مستمدة من الافتراضات النظرية. بيد أن البحوث الكيفية تبدأ من مسلم منهجي مختلف، وهو أن موضوعات العلوم الاجتماعية أو الإنسانية مختلفة في أساسها عن موضوعات العلوم الطبيعية، ولذلك تتطلب هدفاً مختلفاً في الاستقصاء ومجموعة مختلفة من طرق البحث. إذ تؤمن المقاربة الكيفية بأن السلوك الإنساني مرتبط دائماً بالسياق الذي حدث فيه، وأن الواقع الاجتماعي لا يمكن خفضه إلى مجموعة من المتغيرات بنفس الأسلوب الذي يحدث في الواقع الطبيعي.[2]
2)     المقاربة الكمية L'approches qualitative
تعرف المقاربة الكمية بأنها: تلك التي تضع أمام الباحث جملة من أدوات القياس الكمية التي يمكن تطبيقها على عينة من الأفراد ممثلة للمجتمع الأصلي، ثم تحليل تلك البيانات المجمعة بأساليب إحصائية تقود في النهاية إلى نتائج يمكن تعميمها على المجتمع الأصلي ضمن مدى معين من الثقة.
ويعد الشرط الأساسي لتطبيق المقاربة الكمية في العلوم الاجتماعية عموما وعلم الاجتماع على وجه الخصوص هو توجيه الملاحظة نحو مجموعة عناصر على وجه المقارنة، غالبا ما تكون هذه العناصر أفرادا، ولكن يمكن أن تكون جماعات أو مؤسسات أو مجتمعات أو أنواع وحدات أخرى.[3]
وغالبا ما ينظر إلى المقاربة الكمية بوصفها علم متميز وثابت يقوم على أسس صلبة، فالباحثون الكميون يعتمدون على الأرقام والمعادلات، والنسب المئوية التي جرت العادة على عرضها في جداول أو أشكال بيانية من أجل توصيل المعنى. وعند المقارنة بين المقاربة الكيفية والمقاربة الكمية في موضوع ما يتضح لنا أن الأولى تركز على فهم المعنى الاجتماعي، بينما تركز الثانية على الأنماط وإمكانية التنبؤ.[4]
وتعتمد المقاربة الكمية في العلوم الإنسانية على نموذج التفسير الاستنباطي الاستقرائي. ويبدأ الاستقصاء بنظرية عن الظاهرة موضوع البحث، ومن هذه النظرية نستنتج مجموعة من الفروض التي تخضع بدورها للاختبار باستخدام إجراءات محددة مثل إجراءات التصميم التجريبي أو السببي المقارن أو الإرتباطي.
وكذلك يرى الباحثون الكميون بأن قيم الباحث قد تلعب دوراً في تحديد الموضوع أو المشكلة التي يبحثها، ولكن البحث الفعلي يجب أن يكون خالياً من تأثير القيم، أي أن الباحث يجب أن يتبع إجراءات لعزل واستبعاد كل العناصر الذاتية، مثل القيم من موقف البحث، بحيث لا يتبقى إلا الحقائق الموضوعية. وعلى العكس من ذلك فإن الباحث في الدراسة الكيفية يعتقد أن الاستقصاء مقيد دائماً بقيم الباحث ومعتقداته، ولا يمكن التخلص من ذلك، ويحب أن يكون الباحثون صريحون حول الدور الذي تلعبه القيم والمعتقدات في البحث، وذلك في جميع البحوث. ويعتقد الباحثون في الدراسات الكيفية أن عملية الاستقصاء مقيدة بالقيم والتقاليد في المراحل المختلفة للبحث، فهو مقيد بها عند اختيار المشكلة، ونوع البحث الذي يجريه، واختيار منهج البحث الذي يتبعه في استقصاء المشكلة، وفي طريقة تحليل البيانات، وهل يجري بحثاً كيفياً أم بحثاً كمياً.
وعلى الرغم من صعوبة تطبيق المقاربة الكمية على دراسة بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية والسلوكية، فإن الباحثين في هذه العلوم استخدموها بشكل ملحوظ في دراسة العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية، مثل الانتخابات، والرأي العام، والتنمية السياسية، والتنشئة الاجتماعية والسياسية وغيرها من المواضيع الأخرى، وتتطلب بطبيعة الحال إلمام الباحث في العلوم الاجتماعية بالإحصاء، لاسيما بالموسوعة الإحصائية المعروفة باسم (Spss) لكي يتمكن من اختيار الأسلوب الإحصائي المناسب لوصف المتغيرات محل الدراسة. فمحور التركيز في هذه المقاربة هو الإجابة عن السؤال: كيف (Comment) تحدث الظاهرة، وليس لماذا (Pourquoi) تحدث الظاهرة كما هو الحال في المقاربة الكيفية.[5]



[1]. هس(شارلين) وباتريشيا ليفي: البحوث الكيفية في العلوم الاجتماعية ـ ترجمة هناء الجوهري ـ المركز القومي للترجمة ـ ط 1 ـ 2011 ـ ص ص 38 ـ 39
[2]. أبو العلاء (رجاء محمود): مناهج البحث في العلوم النفسية والتربوية ـ دار النشر للجامعات ـ مصر ـ ط الخامسة ـ 2006 ـ ص 277
[3]. العايب (سليم): المقاربة الكمية والكيفية في العلوم الاجتماعية ـ الملتقى الوطني الأول حول إشكالية العلوم الاجتماعية في الجزائر ـ جامعة قاصدي مرباح ورقلة ـ 2012 ـ ص 1
[4].هس(شارلين) وباتريشيا ليفي: البحوث الكيفية في العلوم الاجتماعية ـ مرجع سبق ذكره ـ ص 49
[5]. أبو العلاء (رجاء محمود): مناهج البحث في العلوم النفسية والتربوية مرجع سبق ذكره ـ ص ص 278 - 279

كلمة ترحيبية

تشرفنا زيارتك، لذلك نود منك معاودتها دائما للإطلاع على جديد الموقع

Welcome speech

We are honored to your visit, so we would like you always return to see the new site